مشروع 858- كيف تجسست أمريكا على العراق والشرق الأوسط؟
المؤلف: محمد مفتي10.01.2025

في مطلع ثمانينات القرن الماضي، ومع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، سعى نظام صدام حسين جاهداً إلى امتلاك أحدث وأقوى أجهزة التجسس التي تنتجها الدول الغربية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وبحجة الحرب وحاجة العراق للتجسس على شبكات الاتصالات الإيرانية، تمكن العراق بالفعل من الحصول على هذه المنظومة التجسسية المتطورة، بما في ذلك ما كان يعرف باسم "المشروع 858"، معتقداً أنه سيمكنه من مراقبة اتصالات بعض دول الجوار.
ولكن، من المؤكد أن الولايات المتحدة لم تبيع هذه المنظومة المتطورة للعراق لدوافع إنسانية، بل كانت تدرك تمام الإدراك أن رئيس العراق شخص غير مأمون العواقب؛ فقد قاده قدره ليصبح الرجل الثاني في نظام أحمد حسن البكر، وهي مكانة مرموقة سهلتها له صلة القرابة، واستعان به البكر نفسه للقضاء على خصومه السياسيين وتوطيد أركان حكمه، ناوياً التخلص منه لاحقاً، إلا أن البكر تجرع السم الذي صنعه بنفسه بعد أن أطاح به صدام حسين في انقلاب أبيض.
بعد وصول صدام إلى السلطة في العراق، كانت الولايات المتحدة تنظر إليه بحذر شديد، ورغم ذلك، زودته بكل ما يحتاجه من أسلحة وأجهزة تجسس، ولم يكن ذلك بدافع الكرم أو حرصاً على مصلحة الشعب العراقي، بل لأهداف أخرى خفية، أهمها التجسس على الأحداث في منطقة الشرق الأوسط من خلال نفس منظومة الاتصالات التي باعتها للعراق، وقد مكن هذا المشروع، الذي كان يدار عبر الأقمار الصناعية، الولايات المتحدة بالفعل من الحصول على معلومات بالغة الأهمية عن المنطقة.
لكن العراق لم يفطن إلى هذه النتيجة المحتومة ولم يدرك النوايا الخفية للولايات المتحدة، وتحول هذا المشروع إلى نقمة لاحقت العراق نفسه لاحقاً، حيث أصبحت الولايات المتحدة على علم بكل ما يجري في العراق، ومن البديهي أن من يصنع السم يمتلك المصل المضاد له، وهو ما تجلى خلال حرب تحرير الكويت عام 1990، حيث تمكنت الولايات المتحدة، سواء عبر الأقمار الصناعية أو طائرات التجسس، من التشويش على جميع أجهزة الرصد والتجسس العراقية، سواء التابعة للمشروع 858 أو غير التابعة له، مما أفقد القوات العراقية القدرة على المناورة الفعالة والقيام بهجمات مؤثرة.
ومن الجدير بالذكر أن حروب التجسس كانت محوراً أساسياً للصراعات خلال فترة الحرب الباردة، حيث اعتمدت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي آنذاك على منظومات تجسس متطورة للغاية، وكان التنافس على أشده بينهما، إذ سعت كل منهما إلى كشف أسرار القدرات العسكرية للطرف الآخر، وعندما نجح الاتحاد السوفييتي في منتصف الستينيات في إنتاج طائرة "الميج 21"، التي تفوقت على نظيرتها الأمريكية، لم يهدأ بال الولايات المتحدة حتى تمكنت من الحصول عليها من خلال عملية استخباراتية محكمة قام بها ضابط منشق في سلاح الجو العراقي، والذي استطاع الفرار بها خلال طلعة تدريبية والوصول إلى إسرائيل، حيث تم تفكيكها وإرسالها إلى الولايات المتحدة.
وكما كان سلاح التجسس حاضراً بقوة خلال حقبة الحرب الباردة، كان مفهوم الحلفاء الإقليميين حاضراً أيضاً وبشكل لافت، فبعد وصول الأسد إلى السلطة عام 1970، حرص الاتحاد السوفييتي على التحالف معه، مما أثار قلق الولايات المتحدة بشدة آنذاك، فوجود قواعد روسية في سوريا على مقربة من إسرائيل يعني بالضرورة احتواء هذه القواعد العسكرية على منظومة تجسس متطورة، وهو ما هدد المصالح الأمريكية والإسرائيلية، وظلت الولايات المتحدة وإسرائيل تتربصان الفرصة لتدمير هذه القواعد حتى سنحت لهما الفرصة بعد رحيل الأسد.
من المؤكد أن استحضار التاريخ في سياق الأحداث السياسية الراهنة ينير لنا الطريق الذي يجب أن نسلكه خلال هذه الفترة الحافلة بالصراعات والاضطرابات التي تعيشها المنطقة حالياً، فالتوتر المحتدم الذي يشهده الشرق الأوسط يتطلب الحكمة والتعقل في معالجة كافة القضايا، ولا سيما السياسية منها، فلكل فعل عسكري ردود أفعال يجب حسابها بدقة متناهية قبل الشروع في أي عملية عسكرية، كما يجب الانتباه للمتغيرات الزمنية والتطورات التكنولوجية الحديثة.
لقد خرج العراق بعد ثماني سنوات من الحرب مع إيران بجيش جرار قوامه أكثر من مليون جندي، بالإضافة إلى مئات الطائرات وآلاف المدرعات، مما أوهمه بأنه قوة عظمى لا تقهر، وهو ما شجعه لاحقاً على غزو الكويت، إلا أنه أدرك بعد هزيمة جيشه المذلة أن المعارك تحسم بالتفوق النوعي والتكنولوجي وليس بالكثرة العددية، فالتقنيات العسكرية الحديثة قادرة على حسم أي معركة، حتى دون تدخل بشري مباشر، فالحرب الحديثة هي حرب تقنية واتصالات، وإذا لم يمتلكها الطرف الأقوى في المعادلة العسكرية، فإن الهزيمة الساحقة ستكون حليف الطرف الأضعف.
قبل أيام قليلة، أعلن الرئيس ترامب عن بدء عملية حاسمة ضد الحوثيين، وأوضح بجلاء أن أي هجوم يشنه الحوثيون ستعتبره الولايات المتحدة هجوماً مباشراً من إيران، ولا أعلم حقيقة على ماذا يراهن الحوثيون، فعندما تشن الولايات المتحدة حرباً ضد أي طرف، فإن كافة الدول العظمى تسير في فلكها طوعاً أو كرهاً، فلا يوجد طرف مستعد للتضحية بمصالحه مع الولايات المتحدة من أجل الحوثيين.
ولكن، من المؤكد أن الولايات المتحدة لم تبيع هذه المنظومة المتطورة للعراق لدوافع إنسانية، بل كانت تدرك تمام الإدراك أن رئيس العراق شخص غير مأمون العواقب؛ فقد قاده قدره ليصبح الرجل الثاني في نظام أحمد حسن البكر، وهي مكانة مرموقة سهلتها له صلة القرابة، واستعان به البكر نفسه للقضاء على خصومه السياسيين وتوطيد أركان حكمه، ناوياً التخلص منه لاحقاً، إلا أن البكر تجرع السم الذي صنعه بنفسه بعد أن أطاح به صدام حسين في انقلاب أبيض.
بعد وصول صدام إلى السلطة في العراق، كانت الولايات المتحدة تنظر إليه بحذر شديد، ورغم ذلك، زودته بكل ما يحتاجه من أسلحة وأجهزة تجسس، ولم يكن ذلك بدافع الكرم أو حرصاً على مصلحة الشعب العراقي، بل لأهداف أخرى خفية، أهمها التجسس على الأحداث في منطقة الشرق الأوسط من خلال نفس منظومة الاتصالات التي باعتها للعراق، وقد مكن هذا المشروع، الذي كان يدار عبر الأقمار الصناعية، الولايات المتحدة بالفعل من الحصول على معلومات بالغة الأهمية عن المنطقة.
لكن العراق لم يفطن إلى هذه النتيجة المحتومة ولم يدرك النوايا الخفية للولايات المتحدة، وتحول هذا المشروع إلى نقمة لاحقت العراق نفسه لاحقاً، حيث أصبحت الولايات المتحدة على علم بكل ما يجري في العراق، ومن البديهي أن من يصنع السم يمتلك المصل المضاد له، وهو ما تجلى خلال حرب تحرير الكويت عام 1990، حيث تمكنت الولايات المتحدة، سواء عبر الأقمار الصناعية أو طائرات التجسس، من التشويش على جميع أجهزة الرصد والتجسس العراقية، سواء التابعة للمشروع 858 أو غير التابعة له، مما أفقد القوات العراقية القدرة على المناورة الفعالة والقيام بهجمات مؤثرة.
ومن الجدير بالذكر أن حروب التجسس كانت محوراً أساسياً للصراعات خلال فترة الحرب الباردة، حيث اعتمدت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي آنذاك على منظومات تجسس متطورة للغاية، وكان التنافس على أشده بينهما، إذ سعت كل منهما إلى كشف أسرار القدرات العسكرية للطرف الآخر، وعندما نجح الاتحاد السوفييتي في منتصف الستينيات في إنتاج طائرة "الميج 21"، التي تفوقت على نظيرتها الأمريكية، لم يهدأ بال الولايات المتحدة حتى تمكنت من الحصول عليها من خلال عملية استخباراتية محكمة قام بها ضابط منشق في سلاح الجو العراقي، والذي استطاع الفرار بها خلال طلعة تدريبية والوصول إلى إسرائيل، حيث تم تفكيكها وإرسالها إلى الولايات المتحدة.
وكما كان سلاح التجسس حاضراً بقوة خلال حقبة الحرب الباردة، كان مفهوم الحلفاء الإقليميين حاضراً أيضاً وبشكل لافت، فبعد وصول الأسد إلى السلطة عام 1970، حرص الاتحاد السوفييتي على التحالف معه، مما أثار قلق الولايات المتحدة بشدة آنذاك، فوجود قواعد روسية في سوريا على مقربة من إسرائيل يعني بالضرورة احتواء هذه القواعد العسكرية على منظومة تجسس متطورة، وهو ما هدد المصالح الأمريكية والإسرائيلية، وظلت الولايات المتحدة وإسرائيل تتربصان الفرصة لتدمير هذه القواعد حتى سنحت لهما الفرصة بعد رحيل الأسد.
من المؤكد أن استحضار التاريخ في سياق الأحداث السياسية الراهنة ينير لنا الطريق الذي يجب أن نسلكه خلال هذه الفترة الحافلة بالصراعات والاضطرابات التي تعيشها المنطقة حالياً، فالتوتر المحتدم الذي يشهده الشرق الأوسط يتطلب الحكمة والتعقل في معالجة كافة القضايا، ولا سيما السياسية منها، فلكل فعل عسكري ردود أفعال يجب حسابها بدقة متناهية قبل الشروع في أي عملية عسكرية، كما يجب الانتباه للمتغيرات الزمنية والتطورات التكنولوجية الحديثة.
لقد خرج العراق بعد ثماني سنوات من الحرب مع إيران بجيش جرار قوامه أكثر من مليون جندي، بالإضافة إلى مئات الطائرات وآلاف المدرعات، مما أوهمه بأنه قوة عظمى لا تقهر، وهو ما شجعه لاحقاً على غزو الكويت، إلا أنه أدرك بعد هزيمة جيشه المذلة أن المعارك تحسم بالتفوق النوعي والتكنولوجي وليس بالكثرة العددية، فالتقنيات العسكرية الحديثة قادرة على حسم أي معركة، حتى دون تدخل بشري مباشر، فالحرب الحديثة هي حرب تقنية واتصالات، وإذا لم يمتلكها الطرف الأقوى في المعادلة العسكرية، فإن الهزيمة الساحقة ستكون حليف الطرف الأضعف.
قبل أيام قليلة، أعلن الرئيس ترامب عن بدء عملية حاسمة ضد الحوثيين، وأوضح بجلاء أن أي هجوم يشنه الحوثيون ستعتبره الولايات المتحدة هجوماً مباشراً من إيران، ولا أعلم حقيقة على ماذا يراهن الحوثيون، فعندما تشن الولايات المتحدة حرباً ضد أي طرف، فإن كافة الدول العظمى تسير في فلكها طوعاً أو كرهاً، فلا يوجد طرف مستعد للتضحية بمصالحه مع الولايات المتحدة من أجل الحوثيين.